(1)
لا يُمكنني -ولا في أحلامي- أن أصفها إليك, لقد كانت جميلة منذُ اليوم الأول , ومع كُل يوم كانت تزدادُ جمالاً , وكأنها كانت تغرفهُ من بئرٍ عميقة , لا أزالُ أتذكرها بفستانها الأصفر المنسدل على جلدها الرقيق, بشعرها المصبوغ بلونِ الزنجبيل أما عينيها فسوداء آسرة , كانت واقفة عند صفِ البيرة , تقرأ أسماء النكهات إلى أن استقرت يدها على بيرة بنكهِ توتِ العليق, ابتسمت ابتسامه صغيرة, ولكنها كانت كافية لإماله عالمي كله , آه يا صاحبي .. لقد خطفت قلبي بحهُ صوتها عندما طلبت مني أن أحضر لها ربع لترٍ من الحليب الطازج ,لم تكن تلك حبالٌ صوتية فحسب فلقد شعرت بأنها تمتلُك آله موسيقية أصيلة تجعلُ صوتها ينصبُ في أذنيكَ عذبًا كالمطر , إنها جامحة , شاسعة وجميلة , اقتربت مني وقالت بصوتٍ خفيض : أعطني عُلبتين من سجائر المالبورو الأحمر .. غير أن رائحة عِطرها سبقتها , فأحسستُ- لأول مرة -بالهواء ينسابُ في روحي , ناولتُها عُلبتي السجائر وناولتني الحساب ثم غادرت , ولكن جزءاً منها ظلَّ حبيسًا في داخلي , أي صنفٍ من النساء هي يا رجُل ؟ بعد ذلك اليوم دعوتُ الله في وسط دكاني الضيق هذا أن يجعلها تأتي إليه كلما نقصها شيئًا , وقد استجاب الله لدعائي ..وأصبح دكاني يتسع في كُل مرة تزوره لتبتاع بيرة وسجائر وربع لترٍ من الحليب الطازج .. ظللتُ أتابع زياراتها وخلصتُ إلى أنها تجيء كُل اثنين وجمعة ودعوتُ الله أن يجعل كل الأيام اثنين وجمعة لتتسنى لي رؤيتها , لأني -ببساطة- عندما أراها أشعر بأن عبئًا ثقيلاً قد انزاح عن روحي .. أتظنني مُغرم ؟
(2)
- من تكون تلك يا صاحبي ؟ لأول مرة أسمعك تصف شيئًا بهذهِ الانسيابية , شعرت وكأنك تقرأ من ورقة , ياللروعة ! أيجعلنا الحب فصحاء إلى هذهِ الدرجة ؟
- ابنهُ القاضي ، أتظنني أحببتُها ؟
- نعم ! إنك لم ترَ نفسك وانت تحكي لي عنها , لقد كانت عيناك تلمعان , وشفتيك .. كانت متقوسة كهلال .
- ماذا أفعل ؟
- اذهب وافصح لها عن شعورك .
- أخاف .
- ممَ ؟
- من رد فعلها .
- جرب , لن تخسر شيئًا .
- بلى سأخسر , إذا علمت بشعوري تجاهها لن تأتي لمتجري أبداً .
- لا أذكر أن الحُب سببًا للفراق .
- إنهُ يكونُ كذلك في بعضِ الأحيان, خاصة عندما لا يحمل الشخصين المشاعر ذاتها تجاه بعضهما البعض , حينها يا صاحبي تحدث كارثة !
- ماذا لو كانت هي تُحبك أيضًا , ومجيئها لدكانك ليس إلا حُجة لتراك .
- تمزح! ما الذي يمكن أن تحبه فتاة مثلها برجلٍ مثلي ؟
- الحب ليس له أعين, الحُب شعورٌ يولد فجأة بمفرده , شيءُ لا يعرفُ الجمال أو المال , إنه يقع فحسب , هكذا بلا أي تكلف , تنام خالِ القلب وتقوم وأنت ممتلئ بالحياة .
- هل تعلم, منذُ رأيتها وأنا أشعر أن قلبي مليءٌ بالغيوم .
- اذهب وحدثها, علَّ غيومك هذهِ تُمطر .
- ستأتي غداً صباحًا , وسأخبرها بكل شيء ..
- حظًا موفقًا .
انصرف صديقي , وبقيتُ وحدي أتأمل سقف الأرض , واتضرع لله ألا يكسر قلبي غداً , وأتخيل اعترافًا ساخنًا سيقلبُ حياتي , أتخيلها تخبرني بأنها تُبادلني الشعور , وأن ترددها على دكاني لم يكن من أجلِ البيرة والسجائر والحليب الطازج, بل من أجل أن تراني , أسمعها تقول بأنها تُحب فيَّ لباسي المهترء, وعيناي الذابلتين , أنها تُحب عِطري البلوشنل المقلّد , وقبعتي المخزوقة من المُنتصف .. أنها تُحبني لأني فقير, وأن بإمكاننا أن نتقاسم معًا دهشة تجربة الأشياء الجديدة , وأنها تُريد أن تستلقي بجانبي في ليلةٍ مقمرة وتسرد على مسامعي حكاياها الطفولية , مغامراتها وأحلامها البعيدة - التي قد لا تجيء أصلاً- , وكان خيالي حينها يتدفق بغزارة كشلال , إلى أن نمت غارقًا في أحلامي .
(3)
الصباح يتنفس , كُل العصافير حلّقت باحثة عن رزقها , النملُ يسير في طابورٍ منتظم , النحلُ يقبل الأزهار واوراق الأشجار تتعانق ..وأنا كُنت في دُكاني منذ السادسة صباحًا , قبل موعد مجيئها بثلاثِ ساعات , جئتُ لكي أودع المكان لأنهُ سيتبدل عند التاسعة , فإما سيصيرُ ملاذاً آمنًا أو ساحة معركة .. استعرتُ من صديقي بنطالاً أزرقَ اللون وقميص أبيض , وحذاء , إلا أنني احتفظتُ بقبعتي المخزوقة على رأسي , لأني حين أحدثها سأحتاجُ إلى جرعةِ هواءٍ أخرى, وأظن أن الثقب فيها سيفي بالغرض, لم آكل شيئًا لكيلا ينتفخ بطني قليلاً ويصير شكلي غبيًا , ولم أشرب أي كوبٍ من الشاي لكيلا تكتسي أسناني باللونِ الأصفر , بعدما استغرقت نصف ساعة أغسلها جيداً بمعجونِ النعناع المدعم بجرعة زائدة من الفلورايد.. جلبتُ كرسيًا خشبيًا صغيراً , وجلستُ عند بابِ الدكان أتأمل العابرين وأراها في وجوههم .. كنت أسترق النظر إلى ساعتي بين الحينِ والحين , وفي المرة العاشرة أخبرتني الساعة أنه لم يتبقَ سوى خمس دقائق على موعد مجيئها , نبض قلبي بسرعة , الشمسُ ستشرق بعد خمسِ دقائق , يااه! أي صبحٍ هذا ؟ إنه ميلادٌ جديد.
ومضت الدقائق الخمس سريعًا , وعقبتها خمس أخرى ولم تأتِ وكُل خمسِ تبعتها خمس حتى مضت ساعة كاملة , انقبض قلبي, وخشيتُ على أحلامي من التبَخر , قلقت جداً, وخفت أن تنتهِ القصة قبل أن تبدأ .. ثم بعد ساعة جاء صديقي ضائقًا عابس الوجهه على غيرِ عادته , وأخبرني بكلماتٍ متردده أن الفتاة قد اختطفها الموتُ فجر اليوم, وخر باكيًا .. أما أنا فظللتُ مشدوهًا , شعرتُ بأن أطرافي تصلّبت, وأن قبعتي المخزوقة لا تسرب لي هواءً كفاية , وسمعتُ دويَ أحلامي في روحي , خدش تحطمها خلاياي كُلها لكنني -بالرغم من كُل ذلك- بقيتُ صامتًا , ذاهلاً ومحطمًا بالكُلية .. واستحال متجري الصغير إلى ساحة معركة ولم يكن هنا قتيل سواي . وشعرتُ بأن الزمن توقف عند تلك اللحظة , وأن الغيوم التي في قلبي عصفت بشدة حتى تفككتُ كُلي .. ثم سال دمعي على وجنتاي , لقد كانَ دمعًا جارحًا , لماذا انتهت الحكاية هُنا ؟
- تأخرت كثيراً .
- لم أكن أعرف أنها ستموت .
- ولكنك كنت تعرف أنك تُحبها .
- أرجوك , ليس الوقتُ ملائمًا للوم .
- لا عليك, ستتسهل الأمور .
- لن تتسهل, أنا أعرف هذا النوع من القصص التي تولد بلا مقدمات وتنتهي بلا سابقِ انذار , هذهِ القصص يا صاحبي هي متاهاتُنا الأبدية .
ولم يملك صديقي رداً على كلامي , وغرقنا في الصمتِ , في البُكاء , وفي الحُزنِ الشديد , رغم أن القصة كانت قصتي, إلا أن صديقي لم يتركني أتجرع الحُزن وحدي , وعلمتُ حينها أن ليست قبعتي من ستسرّب لي هواءً عند الضرورة لكن صديقي سيفعل .
مرام الغامدي
تعليقات
إرسال تعليق